خطبة الجمعه انتظار الميت في القبر


الحمد لله الذي كتب الموت على خلقه، ورفع بالموت أقوامًا وخفض به آخرين، وجعل القبر أول منازل الآخرة، فمن نجا منه فهو لما بعده أنجى، ومن لم ينجُ منه فهو لما بعده أشد.

أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من عذاب السعير.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه اللهُ بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله:

أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه:

﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

أيها الإخوة المؤمنون،

حديثنا اليوم عن منزلة عظيمة، ومقام مهول، عن مرحلة ما بعد الموت، عن اللحظة التي يودع فيها المرء هذه الدنيا، وينتقل إلى حياة البرزخ، حيث ينتظر الميت في قبره يوم البعث والنشور، هناك حيث لا مال ولا بنون، ولا جاه ولا سلطان، إنما العمل الصالح أو الطالح.

قال رسول الله ﷺ:

"إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه" [رواه الترمذي].

القبر، أيها المسلمون، ليس فقط حفرة يُوضع فيها الجسد، بل هو إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.

وقد أخبر النبي ﷺ في حديث البراء بن عازب الطويل عن حال الميت المؤمن والكافر في قبره، وكيف يُفتن، وما يُقال له، وكيف يُضيَّق عليه القبر أو يُفسح، وكيف تأتيه ريح الجنة أو سموم النار، كلٌ بحسب عمله.

حال المؤمن في القبر

إذا مات المؤمن الصادق، نزلت عليه ملائكة الرحمة بيض الوجوه، يحملون كفنًا من أكفان الجنة، وحنوطًا من حنوط الجنة، فيُبشَّر بالرحمة والمغفرة، ويُقال له:

"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" [الفجر: 27-28].

ثم يُدفن، ويُسأل:

"من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟"

فيجيب بكل ثبات: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد ﷺ.

فيُقال له:

"نم نومة العروس"، ويُفسح له في قبره مدّ بصره، ويُرى مقعده من الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها.

وينتظر الميت المؤمن في قبره مرتاحًا مطمئنًا، لا يشعر بطول الزمان، يُضيء له قبره، ويرى النعيم المقيم، ويُقال له:

"ربك قد رضي عنك"، فيقول: "رب أقم الساعة، رب أقم الساعة"، شوقًا إلى لقاء الله ونعيم الجنة.

حال الكافر أو العاصي في القبر

وأما الكافر أو المنافق أو العاصي، فينزل عليه ملائكة العذاب سود الوجوه، ويُبشَّر بسوء المصير، فإذا دُفن وسُئل:

"من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟"

فيقول: هاه هاه لا أدري، فيُضرب بمطارق من حديد، ويُفتح له باب إلى النار، ويأتيه من حرّها وسمومها، ويُضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه.

وينتظر هذا الميت في عذاب القبر إلى يوم البعث، وهو في همٍّ دائم، وضيق مستمر، لا يُدرك مرور الزمان، لكن يشعر بالألم والعذاب، ويُقال له:

"لا بشّرك الله بخير"، والعياذ بالله.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي كتب على كل نفس الموت، وجعل القبر أول منازل الآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا عباد الله،

تأملوا كيف يكون الانتظار في القبر، إما راحة وسرور وطمأنينة، أو همّ وعذاب وجحيم. تأملوا قول الله:

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 46]

هذا قبل يوم القيامة، في البرزخ، وهم يُعرضون على النار صباحًا ومساءً!

وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال:

"إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فالجنة، وإن كان من أهل النار فالنار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".

أيها الإخوة:

إن الميت في قبره ينتظر البعث على حاله، لا تتبدل حاله، فهو إما في نعيم مستمر، أو عذاب متواصل، لا يتحول عنه حتى تقوم الساعة.

ولذلك كان السلف الصالح يخافون من القبر أشد من خوفهم من يوم القيامة، لأنهم يعلمون أن القبر هو أول المراحل، ومن صلح حاله فيه فهو لما بعده أسهل.

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:

"لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيهما أصير، لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أين مصيري"، وكان إذا وقف على القبر بكى حتى تبتل لحيته.

فما الواجب علينا؟

أن نُكثر من الأعمال الصالحة، فهي الزاد في القبر.

أن نبتعد عن المعاصي، فهي سبب العذاب في القبر.

أن نُداوم على الدعاء: 

"اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر"، فقد كان النبي ﷺ يتعوذ منه في كل صلاة.

أن نُكثر من ذكر الموت، وزيارة القبور، فإنها تُرقق القلوب وتُذكّر بالآخرة.

أن نُصلح علاقتنا بالله وبالناس، فالحقوق تُسأل عنها بعد الموت.

خاتمة

أيها الأحبة،

إن الموت حق، والقبر حق، والبعث حق، وعلينا أن نُعدّ لهذا المصير، فإن القبر باب، وما بعده أعظم، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنستعد للسؤال قبل أن يُغلق علينا التراب ويُهال.

اللهم اجعل قبورنا روضات من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرًا من حفر النيران،

اللهم ثبّتنا عند السؤال، وأنر قبورنا بنور القرآن، وارزقنا حسن الخاتمة، وراحةً في البرزخ، ومقامًا كريمًا يوم القيامة.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وأقم الصلاة.



تحياتي للجميع خدمات جمال محمود